مقالات

من أسوان … إلي جلاسكو – مع تحيات التغيرات المناخية

 

“تمخض الجبل فولد فأرا” هذا حال المفاوضات الجارية منذ أوائل الشهر الحالي في مدينة جلاسكو بإيرلندا الشمالية التابعة للتاج البريطاني، والتي حشدت لها الحكومة البريطانية كافة سبل النجاح من تنظيم أكثر من رائع بشهادة الجميع، وتغطية إعلامية هي الأضخم، وحضور على أعلى المستويات السياسية والفنية وعدد مشاركين تجاوز الأربعين ألف حسب التقديرات الأولية للمنظمين … والمحصلة النهائية لا تتلاءم مع قوة البدايات.

 

بدء المؤتمر الدولي للأمم المتحدة للتغيرات المناخية باجتماع قمة حضره قادة اكثر من 190 دولة والأمين العام للأمم المتحدة وولي عهد إنجلترا ورئيس حكومتها وعدد كبير من الوزراء ولفيف من الخبراء والمختصين في مجال البيئة والتغيرات المناخية، وتابع العالم الكلمات المؤثرة من قادة العالم في الافتتاح، والتعهدات التي لم تتجاوز حيز قاعة الاجتماعات.

 

فما لبث ان انتهي اجتماع القمة وغادر الزعماء مدينة جلاسكو وتُرك الأمر في ايادي المفاوضين حتى عاد كل شيء لطبيعته التي دامت خلال خمس وعشرون دورة للمؤتمر منذ انطلاقه بعد التوقيع على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية للتغيرات المناخية في قمة الأرض بريو دي جانيرو بالبرازيل عام 1992. فالتسويف والمماطلة والوعود البراقة بدون ضمانات من طرف الدول الصناعية (المتقدمة الغنية المتسبب في المشكلة) وبين طلبات بالحق في النمو وحصة في الغلاف الجوي لانبعاثات دول نامية (بازغة النمو وذات اقتصاديات قوية) وبين دول جزرية مهددة بالفناء والاختفاء تماما من على خريطة العالم اذا ارتفع مستوى سطح البحر نتيجة ذوبان جليد القطبين الناتج عن ارتفاع درجة الحرارة بسبب الانبعاثات المسببة للتغيرات المناخية – سلسلة طويلة من المسببات والنتائج الكارثية التي اكدت عليها مرارا وتكرارا التقارير العلمية الصادرة عن المراكز البحثية المرموقة والهيئة الحكومية المعنية بالتغيرات المناخية.

 

حرب تفاوضية مصيرية، تنصل من التزامات ومسئولية تاريخية وعدم تقدير لحجم الكارثة التي لا تطال إلا أفقر الدول والمجتمعات، وكأن الكوكب قد اجتمع عليها فبرغم من فقرها واقتصاداتها المتهالكة وظروف الحياة وجائحة كورونا وعدم توافر التطعيمات لها بشكل عادل تأتي التغيرات المناخية لتزيد من معاناتها – عن أفريقيا ودولها تحديدا اتحدث.

 

لم تلتزم الوفود المتفاوضة بما جاء بتعهدات الزعماء، والقول بأن من يملك يحكم قد فرض سيطرته على مسار التفاوض، فالدول الغنية الملزمة بالوفاء بتعهداتها بتوفير الدعم والتمويل للدول الفقيرة والمهددة وتعوضيها عن الخسائر الناجمة عن التغيرات المناخية لا تري في حقيبة التفاوض سوي ما يفيد مصالحها الاقتصادية، ويحقق طموحاتها السياسية بكبح جماح مجموعة من الدول النامية التي تحاول مزاحمتها والوصول الى مصاف الدول الغنية.

 

المؤتمر الذي كان مقررا له ان يختتم أعماله مساء يوم الجمعة الموافق 12 نوفمبر 2021، امتدت اعماله – كالعادة – ليوم أخر في محاولة من رئاسة المؤتمر البريطانية انقاذ ما يمكن إنقاذه والهروب من شبح الفشل الذي ما زال يلاحق مؤتمر كوبنهاجن في دورة عام 2009. فالوثيقة الرسمية الأهم التي يتم الإعداد لها في مطابخ السياسة ما تزال غير مقبولة ولابد من قبولها بالإجماع حسب مقتضيات العمل في هذا المؤتمر، فدولة واحدة يمكنها وقف أعمال المؤتمر اذا ما اعترضت على الوثيقة الرسمية الختامية.

 

المتأمل في ما جاء بمسودة الوثيقة التي قدمتها الرئاسة البريطانية يجد أنها ترتكز في الأساس على موضوعات الحد من الانبعاثات، وتقديم تقارير بشفافية ومسئولية من كافة الدول، وهو حق يراد به باطل، وحجر عثرة يوضع في طريق الدول النامية للحد من نموها، في حين ان الموضوعات التي تهم الدول النامية لا تحظي بنفس القدر من الاهتمام، فمثلا، التمويل الذي كان مفروضا على الدول الصناعية تقديمه كل عام بمقدار 100 مليار دولار للدول النامية لم يتم تحقيق أي تقدم في هذا الملف، كما أن موضوعات التكيف مع التغيرات المناخية لم تحظي باهتمام فيما عدا الاتفاق علي برنامج عمل لمدة سنتين يتم من خلاله عقد عدد من حلقات العمل والاجتماعات لتحديد احتياجات الدول النامية، وكأن الأحداث المناخية الجامحة التي نراها كل يوم في دولة من الدول سوف تمهل الدول النامية سنتين أخريين!!

 

كما أن احد اهم الموضوعات التي نص عليها في اتفاق باريس للمناخ عام 2015 وهو موضوع تعويض الخسائر الناجمة عن التغيرات المناخية، لم يحقق أي تقدم في مفاوضاته، ويكأن الطبيعة تريد ارسال رسالة عاجلة للمفاوضين في جلاسكو صادرة من جنوب مصر – التي تستضيف المؤتمر القادم – وتحديدا من مدينة أسوان الجميلة الهادئة ذات الطبيعة الخلابة وفصل الشتاء الأجمل على الإطلاق، وبأهلها الطيبين إذ بها تستقبل فصل شتاء يدق أبوابها بعنف هذه المرة ويعلن عن وصوله ولكن هذه المرة ليست من الإسكندرية أو البحيرة أو رأس غارب فقد تعرضت المدينة بالأمس الى موجة طقس سيء ولأول مرة نرى سقوط ثلوج وعواصف رعدية وامطار شديدة على هذه البقعة الساحرة الهادئة، وخسائر في الممتلكات وتعرض العديد من السكان للدغات العقارب التي هربت من جحورها مع ارتفاع مياه الأمطار لتهاجم الأهالي، قلوبنا مع أسوان وأهلها، وكأن اسوان تقول لمن في جلاسكو يجب أن تتفقوا ولو لمرة واحدة، يجب أن يكون لاجتماعكم الكبير هذا نتائج على نفس مستوي الحشد خلال السويعات المتبقية من عمر الجولة الحالية من المؤتمر، وإلا فإنه كان من الأجدر لكم أن توفروا المليارات التي انفقت والتي كان يمكن مساعدة بلدان فقيرة بها او توفير لقاحات تمنع تفشي الأمراض وتوفير الانبعاثات التي صدرت عن طائراتكم ووسائل نقلكم للمؤتمر لمشاركة هذا الحشد الكبير والذي تسببت رحلاتهم الجوية في زيادة الانبعاثات بالغلاف الجوي ولم تساهم في حل المشكلة، وحتى لا تتحول مشاركتكم في هذا الحدث الهام – الذي كان ينتظره العالم وتأجل لعام بسبب ظروف الجائحة -–الي قرارات هلامية وفقاعة هواء وجولات سياحية ومزيد من التلوث والانبعاثات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى