مقالات
التغيرات المناخية وتعثُر تعافي الاقتصادات الكبرى والاسواق الصاعدة والنامية
لا يوجد بلد بمنأى عن تأثيرات تغير المناخ؛ حيث تتداخل هذه التغيرات ونتائجها مع الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والبيئية الأخرى، ويشكل تغير المناخ والفقر وعدم المساواة قضايا مصيرية في عصرنا الحالي، كما يتضح جليًا في الظواهر والكوارث الطبيعية المتكررة بالغة الشدة، وهذا بدوره يتسبب في تفاقم المخاطر التي يمكن أن تزيد من قابلية التأثير، وتؤدي إلى تفاقم المظالم والمآسي واشتداد الأوضاع الهشّة القائمة بالفعل، وما يمثل وجه الخطورة في هذا السياق وضع قضية تغير المناخ على جدول أعمال مجلس الأمن برئاسة أيرلندا في سبتمبر 2021م، حيث توصلت إحدى جلساته إلى نتيجة، مفادها أنه لا توجد منطقة محصنة في العالم ضد الكوارث المناخية.
وفي ضوء ذلك، يأتي التغيُّر المناخي إلى عالم مهيأ للأزمة، تتقاطع فيه الاختلالات الحالية والمتوقعة الناجمة عنه؛ مع أزمات الفقر والعنف الموجودة مسبقًا، هذا التلاقح بين الكوارث السياسية والاقتصادية والبيئية يمثل تشابك المشكلات وتضخم بعضها بعض، حيث تعبر كل واحدة من هذه المشكلات عن نفسها من خلال وقوع حادثة ومشكلة أخرى.
وطبقًا للتقارير الصادرة عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ IPCC؛ تغيّرات مناخ الأرض لا تستثنى منه منطقة من مناطق العالم وشاملاً لكل النظام المناخي، ولم يسبق لعديد من هذه التغيرات مثيل منذ مئات السنين، ويذكر أن دور التأثير البشري في النظام المناخي هو الدور الرئيسي لا مراء فيه، كما يظهر أن الإجراءات البشرية لم تزل لديها القدرة على تحديد المسار المستقبلي للمناخ.
فالتغيُّر المناخي وتداعياته قد يجبر (216 مليون) شخص على الهجرة داخل بلدانهم عام 2050م، مع ظهور بؤر ساخنة للهجرة الداخلية بحلول عام 2030م، ومن ثمّ تأخذ في الانتشار والتفاقم بعد ذلك، ويدفع (123) مليون شخص إلى براثن الفقر خلال السنوات القادمة، وكذلك انخفاض غلة المحاصيل وخاصة في أكثر مناطق العالم معاناة من انعدام الأمن الغذائي، وتتضح الأضرار في كل من أجزاء من أمريكا الجنوبية، ولا سيما حوض الأمازون والبرازيل، وما تعرضت له أجزاء من شرق أفريقيا لفيضانات شديدة مثلما تعرضت له دولة السودان، في الوقت نفسه الذي تتسبب أساليب الزراعة والحراجة وتغيير استخدام الأراضي في نحو (25%) من انبعاثات غازات الدفيئة، ففي السنوات القادمة تشتد التأثيرات المتعددة لتغير المناخ على النمو الاقتصادي، فبعض البيئات تدفع إلى تفاقم مظاهر الفقر خلال التعرض للمظاهر المتصلة بالمناخ مثل الفيضانات والأمراض التي تنقلها الحشرات والميكروبات.
وبالنظر إلى الجهود الحكومية محليًا ودوليًا المساهمة في الحد من الفقر، فقد مُنيت بانتكاسة منذ عدة عقود؛ فبتحليل عوامل مجتمعة يدعم التقاؤها الأزمة الحالية، وسيستمر تأثيرها في المستقبل ضمن هذه العوامل تغير المناخ وهو الخطر المتصاعد ببطء والذي يتلاقى مع التأثيرات الخطيرة التي خلّفتها جائحة (كوفيد-19(، وما يرتبط من ركود اقتصادي عالمي يمحو اتجاهات تراجع معدل الفقر سريعًا، وأيضًا الصراع المسلح الذي تزايدت تأثيراته باطراد في الأعوام الأخيرة.
وفي إطار التغيرات العالمية التي تتعرض لها كثير من الدول يُتوقع تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي طبقاً لتقرير آفاق الاقتصاد العالمي لصندوق النقد الدولي 2022 هبوطًا من (6,1%) تقريبًا في عام 2021م إلى (3,6%) في عامي 2022م و2023م، ويمثل ذلك تراجعًا قدره (0,8%) درجة مئوية في عامي 2022م و2023م؛ مقارنة بتوقعات يناير، وفيما بعد عام 2023م، كما تشير التنبؤات إلى تراجع النمو العالمي إلى حوالي (3.3%) على المدى المتوسط، حيث وصلت معدلات التضخم المتوقعة لعام 2022م إلى (5,7%) في الاقتصادات المتقدمة و(8,7%) في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية متجاوزة بذلك توقعات يناير بمقدار (1,8%) نقطة مئوية؛ مما يضاعف ذلك الجهود الضرورية للاستجابة للأزمة الإنسانية، والحيلولة دون استمرار حالة التشتت الاقتصادي، والحفاظ على مستويات السيولة العالمية، وإدارة المديونية الحرجة، ومواجهة تغير المناخ في إطار تلاقي مشكلات متعددة قد يزيد تلاقحها من المضار والآثار المترتبة.
وقد تؤدي الكوارث الطبيعية والظروف المناخية الشديدة إلى تعثر التعافي في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، حيث تظهر إحصائيات EMDES – اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية – إجمالي مجموع الأضرار والخسائر الاقتصادية المرتبطة ارتباطًا مباشرًا أو غير مباشر بالطقس والمناخ والمخاطر المتصلة بالمياه، فهذه المخاطر مرتبطة بوقائع طبيعية وجيوفيزيائية ومتصلة بالأرصاد الجوية والمائية والبيولوجية وتقلبات المناخ – كما هو موضح بالشكل التالي والذي يوضح مساهمات الاقتصادات الكبرى في النمو العالمي من (2015 حتى 2023) والذي يُظهر نسبة المساهمة في تنبؤات النمو العالمي خلال الفترة (2021 – 2023م)، ويشير العمود الأول إلى متوسط المساهمة في النمو في فترة السنوات (2015 – 2019م)، وتُحتسب الإجماليات باستخدام الأوزان الترجيحية لإجمالي الناتج المحلي الحقيقي بمتوسط أسعار الدولار الأمريكي وأسعار صرف السوق في السنوات (2010 – 2019م)، والنقطة المظللة تشير إلى التوقعات.
أما موقف الاقتصادات الكبرى وما مدى مساهماتها، فتشير التنبؤات العلمية إلى أن النمو العالمي سيشهد تباطؤًا حادًّا، وهو ما سيؤثر على الطلب في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، وتدلل البيانات والإحصاءات المرتبطة بالتنمية الاقتصادية ومعدلات نموها الآخذ في الهبوط إلى انعكاسات غير محمودة على قدرة البلدان الفقيرة في مواجهة أزمة تتمثل في زعزعة الأمن الغذائي، فقد تعصف الكوارث المناخية بالأمن الغذائي في هذه البلدان؛ فالقطاعات الزراعية والثروة الحيوانية والغابات ومصايد الأسماك التي يعتمد عليها معظم فقراء العالم تتشابك مع تطورات التغيُّر المناخي. ومن المخاطر المحتملة أيضًا جراء الكوارث الطبيعية والتغيرات المناخية الشديدة أن تؤدي إلى تعثر في اقتصادات الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية، وهذا طبقًا للبيانات الواردة في الشكل التالي؛ والذي يوضح الخسائر الاقتصادية الناجمة عن الكوارث المرتبطة بالطقس والتغيُّر المناخي منذ عام 1970م إلى عام 2019م، حيث تتضح الفروق الكبيرة في هذه الآثار والأضرار الناجمة عنها.
المصادر: